Search In this Thesis
   Search In this Thesis  
العنوان
الأنساق الأدائية في روايةالأجيال عند نجيب محفوظ\
الناشر
جامعة عين شمس .
المؤلف
عبدالرحمن،منى زكريا.
هيئة الاعداد
مشرف / محمد عصام بهي
مشرف / حسن أحمد البنداري
مشرف / الزهراء محمد بدوي الغنام
باحث / منى زكريا عبد الرحمن
الموضوع
الأنساق الأدائية. رواية الأجيال. نجيب محفوظ.
تاريخ النشر
2011
عدد الصفحات
ص.:343
اللغة
العربية
الدرجة
الدكتوراه
التخصص
الأدب والنظرية الأدبية
تاريخ الإجازة
1/1/2011
مكان الإجازة
جامعة عين شمس - كلية البنات - اللغة العربية وآدابها
الفهرس
يوجد فقط 14 صفحة متاحة للعرض العام

from 343

from 343

المستخلص

ظلت العلاقة بين اللغة المنطوقة - أو المكتوبة - وما تشير إليه في العالم الواقعي أو عالم الأفكار والمشاعر البشرية ، إشكالية معقدة جعلت من الطبيعي تفهم انشغال علماء اللغة والأدباء وفنانو ومنظرو الفنون الأدائية بطبيعة تلك العلاقة وبالكيفية التي تقوم من خلالها اللغة – كنسق- بالتعبير عن ما يشغل الوعي البشري أو حتى ما يجعل من الكلمة ممتلكة لتلك القدرة على تمثيل ما تعبر عنه وتحقيقه. ولذلك نجد الكثير من التعليقات والتأملات التي حاولت أن تفسر وتحدد وترسي قواعد العلاقة بين اللغة وما تمثل – أو تشير إليه – بداية من فلاسفة اليونان مرورًا باللغويين العرب - كعبد القاهر الجرجاني على سبيل المثال- واللغويين الغربيين والنقاد والفلاسفة في الغرب ، وصولاً إلى فوكو ودريدا وبقية منظري ما بعد البنيوية .
إن تلك الإشكالية كان لها أثرها الواضح على النظرية الأدبية والتي تمتلك تاريخ الطويل من التنظير اللغوي والأدبي الذي يدعو إلى استقرار يصل لدرجة اليقين للأجناس والأنواع ، وتمثل ذلك التأثير في ظهور قوى مضادة لهذا التصور السائد ، تبحث في العلاقات الممكنة بين النص الأدبي - كنسق لغوي مكتوب – والفنون الأدائية السمعية والبصرية القائمة على التجسيد بشكل رئيسي ، إلا إنها كانت تعمل على استحياء طوال الوقت وبشكل هامشي ، لكن بداية من النصف الثاني من القرن العشرين بدأت تحتل تدريجيا مكانة الصدارة ، وتمثل ذلك في التداخل النوعي للأجناس الفنية والأدبية في ما بعد الحداثة ، واهتمام البحث العلمي في دراسة التاريخ المشترك للفنون السردية والأدائية ، مما أدى إلى انفتاح مجال السرد ليصبح قابلًا للتطبيق على مجالات كثيرًا ما كان يُظن عدم وجود علاقة مباشرة بينه وبينها ، وإلى جانب ذلك المحاولات الكثيرة والمتشعبة التي حاولت الاقتراب من الفنون (البصرية/السمعية) والتي أصبحت تحتل بالتدريج الأراضي التي كانت الفنون المكتوبة تحتلها.
كل ذلك جعل من اللغات الأدائية الصوتية والبصرية تقوم على تشكيل أهم ملامح تكوين النص في القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين خاصة بعد تراجع أهمية الأدب المطبوع المنغلق على ذاته وعدم قدرته على الانتشار بين الناس واقتصاره على النخبة والدارسين والباحثين. أمام الانتشار الواسع للأداء في كافة المجالات.
لهذا تحاول الباحثة الدخول في تلك المساحات التي صارت تدخل في إطار المسلمات لتعيد طرح الأسئلة الأولية والبسيطة على كل ما هو بديهي في ذلك المجال . لكننا هنا لن نحاول إعادة طرح الأسئلة البدائية بسذاجتها وبراءتها كما يبدو من الوهلة الأولى، لكننا سنحاول إعادة طرحها ضمن الوسط المتخم الذي حاولنا أن نشير إليه هنا، وذلك عبر نموذج شديد الثراء والقوة وهو روايات الأجيال عند نجيب محفوظ وهي:(حديث الصباح والمساء – الثلاثية – أولاد حارتنا – الحرافيش) والبحث في اللغات الأدائية داخلها ومدى قابليتها للتحقق.
وقد اختارت الباحثة محفوظ لعدة أسباب:
1. نجاحه في أن يُدخل إلى الثقافة العربية الرسمية ذات التاريخ المتعالي والمنفصل عن المتغيرات الواقعية جزءًا من ثقافة حية ظلت مرتبطة بما هو شفاهي.
2. تميزه بالصورة البصرية المتخيلة والقوية.
3. نجاح أعماله الملحوظ في عالم الفنون الأدائية خاصة فن السينما.
4. محاولاته الناجحة في الكتابة للنصوص الأدائية ، حيث إنه كتب للمسرح والسينما.
كما أن الباحثة اختارت روايات الأجيال كعينة لدارسة أعمال محفوظ لما تمتلكه من ثراء خاص متمثل في التنوع والاتساع للتكنيكات ، ما يسمح لنا بدراسة معظم التقنيات الروائية والبحث من خلالها عن العلاقات الممكنة التي من الممكن أن تنشأ بين الرواية والفنون الأدائية وبالتالي اكتشاف الإمكانات الأدائية التي يمكن أن تحملها الرواية.
والأداء الذي نقصده هنا هو ما يعرف بالإنجليزية تحت اسم ”Performance” أو عرض ، فالأداء هنا فى تعريفه البسيط هو عبارة عن ثنائية يتم فيها تنفيذ فعل ما بعد وضعه في صورة ذهنية مقارنة بنموذج آخر مثالي له ، أو نموذج أصلى موجود فى الذاكرة ، و فى العادة تتم هذه المقارنة بواسطة الشخص الذي يراقب هذا الفعل – مثل الجمهور – فالأداء هو دائمًا أداء بالنسبة لشخص ما ، فهناك دائمًا جمهور ما يراقبه و يُقيِّمه كأداء ، إن هذا التعريف البسيط هو ما سنعتمد عليه من خلال الدراسة فقط وهو ما يعنينا ، دون الدخول بشكل متخصص داخل الفنون الأدائية ، ذلك لأن إشكالية الباحثة ليست الأداء فى حد ذاته ، و إنما قابلية الأدب للأداء بحيث نتناول الإمكانات المتاحة للغة الأدبية عن طريق التخييل و ذلك من خلال البحث في – و عن – نظام العلامات فى النص الأدبي المكتوب و التي تجعل منه مسودة أولى لعرض يُشاهد / يُسمع عبر بناء زمني متخيل داخل الحكاية ، وواقعي مرتبط بزمن التلقي لمجموعة من المتفرجين ، و بذلك تصبح هذه اللغة الأدبية قادرة على مواكبة روح العصر .
ومن هذا المنطلق سيتم تقسيم الدراسة بناءً على العناصر الأساسية المكونة لتعريف الأداء والمتمثلة في : (النسق الصوتي – النسق البصري- النسق الزمني) وسيشغل كل نسق من هذه الأنساق فصل بحثي مستقل .
أولا : النسق الأدائي الصوتي:
ويقوم ذلك الفصل على البحث في نظام العلامات اللغوية القابلة للأداء الصوتي ، مؤكدين أن تلك الفكرة نابعة من الموروث النقدي العربي في الأساس ، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد حازم القرطاجي يصنع علاقات بين الدلالات الصوتية والرموز الكتابية على أساس من الترابط الدلالي ، حيث تتشكل الرموز الخطية الكتابية على هيئة ألفاظ مسموعة في الذهن ، وتصبح بذلك قابلة للأداء ، ولعل هذا الطرح – أي الترابط الدلالي- سبق النظرية النقدية الحديثة بقرون وخاصة عند تشومسكي والتحويليين.
وتنقسم تلك العلامات اللغوية إلى ثلاثة أنواع:
أ‌- السرد.
إن السرد في روايات الأجيال عند نجيب محفوظ – النماذج - مازال قادرًا على التحول إلى صوت حي يحل محل الراوي القديم وفق أفقه الخاص وسماته المميزة له ، التي تتعلق بالتقنيات الكتابية و بقايا التفكير الشفاهي التي حافظت على وجودها سواء على مستوى التفكير أو على مستوى السلوك والتكنيك السردي ، ففي كثير من الأحيان نجد اعتماد الراوي الضمني على نمط التفكير الشفاهي في بناء عالمه السردي كما رأينا في رواية الحرافيش وأغلب الروايات التي تعتمد على سلاسل النسب الطويلة.
وفي الحالات الأخرى التي يغيب فيها نمط السارد الشفاهي تسيطر على المشهد التقنيات الكتابية ، نجد أن الحكاية يتم صياغتها داخل إطار قائم على تقديم العرض على السرد ، واختزال دور السارد لصالح الشخصيات التي نراها وهي في حالة تعبير عن ذاتها بالحوار في أغلب أجزاء الرواية . كما أن اعتماده لذلك النمط يتيح له على مستوى العلاقة مع المتلقي تشكيل نموذج جمالي قائم على الوحدات الصغيرة والمشاهد السريعة والمتلاحقة ، بما يعود بالمتلقي على المستوى الثقافي والجمالي إلى النمط السينمائي في السرد البصري واستخدام الحوار ، وغالبا ما يحدث ذلك في روايات سلاسل النسب القصيرة .. وهو ما يؤكد على وجود ملامح أدائية كامنة داخل الروايات قابلة للتنشيط والتحفيز.
كما يمكننا أن نرى الصوت السارد وهو يتلون إيقاعيًا .. ويغير من أسلوب بناء الجملة حسب الشخصية وموقفه منها.. والموقف الذي يقوم بتحليلها فيه .. وهو ما يكشف لنا على طبيعة أدائية ولو خفية يمتلكها الراوي(الصوت السارد الرئيس) ويعبر من خلالها ولعل هذا وضح بشدة في الثلاثية..
ب – اللغات الكلامية.
وتتمثل تلك اللغات في العلامات القابلة للأداء الصوتي الكلامي والتي تظهر داخل الرواية من خلال ثلاثة أشكال:
1- الخطاب المسرود:
إن صوت السارد داخل روايات الأجيال عند نجيب محفوظ يتلون ويصطبغ بطبيعة المشهد ، بل ويقوم باستدعاء الحالة النفسية للشخصية داخل خطابه الخاص من أجل التأكيد على تعاقب الأجيال من جهة ولدعم الطبيعة الأدائية الكامنة التي يمكن تفعيلها في مجال الفن الأدائي من جهة أخرى. وفي حال غياب الشخصيات عن المشهد ، فإنه يستبدل ذلك الغياب بلغة أكثر حميمية في التعامل مع العالم ، كما أن السارد / الراوي في رواية الأجيال عند نجيب محفوظ لا يقوم فحسب بدور أساسي في الإيحاء بالزمن الطويل وتجسيد المراحل الزمنية عبر حضوره داخل المشهد فحسب.. بل إنه وإلى جانب ذلك الدور يقوم بكافة الأدوار التقليدية التي يمكن حصرها في مجموع الوظائف السردية التي يمكن أن يقوم عليها العمل السردي بداية من السرد وتنسيق وتنظيم الأحداث والربط بينها وإبلاغ الرسالة أو المغزى القصصي وذلك إلى جانب عدد آخر من الوظائف مثل الوظيفة الانتباهية والوظيفة الأيدولوجية.
2- الخطاب غير المباشر.
اتسمت روايات الأجيال عند نجيب محفوظ باستخدم تقنية الخطاب غير المباشر الحر ، والذي يحوي قدرًا من الإمكانات الأدائية التي من الممكن تفعيلها عبر الوسائط الأدائية ؛ وذلك لأنها بطبيعتها تحمل إمكانات أدائية مصدرها ذلك التداخل بين المقامات السردية ، إضافة إلى كونها لا تتعامل مع العلامات الطباعية المميزة لغيرها من التقنيات ، بل إنها من الممكن أن تستغل حالة الضبابية للظهور والتجلي بما يجعلها ملائمة للتفعيل الأدائي .. ولكن ومن جانب آخر فإنها تظل أقل أدائية من الخطاب المباشر.
3- الخطاب المباشر.
والمتمثل في الحوار والمونولوج والذي يشير ظهورهما في متن النص (المسرحي/ الروائي) إلى الحضور المباشر للشخصية (أو الشخصيات) عبر منطوقها المباشر وحدوث حالة من الجدل بين تلك الأفكار المطروحة ، سواء التي يتم تبادلها بين شخصيتين أو أكثر أو داخل الشخصية الواحدة ، بما يسهم في تطوير الحدث والكشف عن طبيعة الشخصيات ومواقفها وموقعها داخل الحدث ، إن ذلك الحضور للشخصية داخل روايات الأجيال يؤشر لإمكانية أدائية مضمرة قوامها حضور الشخصية كفاعل أساسي ، وهو ما يعد من الأسس الأولية لفن الأداء.
ج- اللغات غير الكلامية
في العادة كان يتم التعامل مع الفضاء (أي فضاء ممكن) باعتباره حالة حياد تامة مادام لم يتم شغله من قبل الإنسان... ولكن حدث اتساع لذلك المفهوم ببطء للحد الذي أصبح فيه الفضاء مساحة تشكيلية يمكن أن تشغل من قبل الإنسان عبر حضوره المتعين أو عبر حضور يمثله.. وبالتالي أصبح للأشياء قيمة في تشكيل المكان وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من عمليات تشكيل الفراغ سواء من خلال التشكيل الواعي من الإنسان لذلك الفراغ أو عبر تحجيم الفضاء الطبيعي من خلال اللغة مثلما هو الحال مع الغابة التي أصبحت فضاء مشغولًا نتيجة لتحجيمها وحصرها من خلال كلمة (غابة) وليس من خلال تدخل الإنسان المباشر في تشكيلها .. وعليه صار الفضاء غير المحدد أو المحجوز داخل اللغة – أيًا كان نوع اللغة أو أبجديتها حتى لو كانت لغة غير منطوقة – هو الفضاء المحايد أو الفارغ.
ومن خلال ذلك أصبح من الممكن أن نتحدث عن كون عمليات تشكيل الفضاء الصوتي أصبحت أكثر تنوعًا وأرحب من مجال الأصوات البشرية ، وليس هذا فحسب.. بل لقد صارت الأصوات تتنوع بين ما هو بشري وما هو غير بشري فظهرت أصوات الآلات لتشكل جزءًا من العالم البشري ، وأصبحت تقع على الطرف المقابل من عالم الأصوات الطبيعة (أصوات الطبيعة والحيوانات.. إلخ...) بما يؤشر على تطور المجتمع البشري ، ويطرح أفق حول العالم وهو في حال التحول والتغير... وقد حدث ذلك من خلال عمليات تم ضبطها وحصرها من خلال اللغة الخطابية ، وليس اللغة المعجمية التي قامت بحصرها ، وهو ما يعني أن اللغة المنطوقة/ المكتوبة ليست هي اللغة الوحيدة الممكنة ، بل هي جزء من أنساق لغوية تسهم في تشكيل الخطابات.
وهذا ما نجده على سبيل المثال في أصوات الحديقة داخل رواية أولاد حارتنا والتي تمثل جزءًا مهمًا من بنية منزل الجبلاوي من خلال المقابلة التي تطرحها بين حالة التنوع الصوتي في الحارة وسيادة الصوت الواحد الملتف بصمت العالم في منزل الجبلاوي.
ومن اللغات غير الكلامية داخل روايات الأجيال عند محفوظ لغة الصمت المحملة بالدلالات التي تدعم عالم المعنى الكلي للرواية من خلال مقابلتها بالصوت المسموع ، إن تلك اللغة بالتحديد تدعم فرضيتنا البحثية بقوة ، حيث إن حضور الصمت يستلزم بشكل مباشر تجاوز اللغة (المكتوبة / المنطوقة) صوب إدراك الصمت كحضور أدائي .. ورغم أن كافة الدوال اللغوية مثل كلمة (الصمت) تستدعي مدلولاً عقليًا.. بما قد يلقي بظلال من الشك على فكرة تجاوز القارئ للنص المكتوب نحو إدراك كلمة (الصمت) كإرشادة أدائية في حد ذاتها .. فإننا نجد أن (الصمت) عند محفوظ يتجاوز العلامة الطباعية التي في فضاء النص، وتظهر كتقنية أدائية يستخدمها السارد في تشكيل بنية المشهد وتخليق إيقاعه الداخلي ، ومن هنا يمكن أن نكتشف تلك السمة الأدائية الكامنة في (فترات الصمت) التي يشير إليها السارد، وذلك بسبب دورها في تجسيد الزمن وملامسة زمن القراءة بشكل إيحائي يحيل لزمن المشهد.
ومن اللغات غير الكلامية أيضًا التي لها دور بارز في التأكيد على الإمكانية الأدائية لروايات الأجيال ، لغة الأغاني التي تقوم على تقديم خطاب الشخصية ولغتها الخاصة ، وهذا ما نجده بشكل واضح في الأغاني الصوفية في رواية الحرافيش ، والأغاني المرتبطة بفترات تاريخية بعينها داخل الثلاثية وحديث الصباح والمساء... إضافة إلى الدور الأساسي الذي تقوم به الموسيقى كعنصر أدائي يقع على مستويين: الأول انفعالي والآخر إيقاعي.
ثانيًا : النسق الأدائي المرئي.
وفي البداية لابد لنا من الإشارة إلى أن الأنساق المرئية داخل روايات الأجيال عند نجيب محفوظ تحتل دورًا شديد الأهمية في بنائها وتشيد خطابها وهو الأمر الذي نستطيع أن نلمح أثره بشكل واضح في كافة الروايات –النماذج- الواردة في البحث ؛ فمن الجلي أن كافة تلك الروايات هي روايات مكان بدرجة أساسية ، حيث يحتل فيها المكان مرتبة هامة ، ونجد هذا في الثلاثية التي تتخذ عناوينها من أماكن بعينها كما لوكانت تقوم بعملية سرد لسيرة أسرة السيد أحمد عبد الجواد داخل ذلك المكان المتغير والمتطور بشكل دائم ، إلى الحد الذي يقوم فيه المكان بخنق تلك الشخصيات وتحديد عالمها الطبقي والنفسي ، كما نستطيع أن نلمح ذلك الملمح في رواية (أولاد حارتنا) التي هي سيرة لحارة بقدر ما هي سيرة لعائلة الجبلاوي ، وهو ما يتكرر بشكل أكثر قوة في (ملحمة الحرافيش) وفي النهاية يمكننا أن نلمحها في رواية (حديث الصباح والمساء) ، وإن كان بشكل أكثر تعقيدًا حيث تتحول القاهرة كمكان إلى إطار عام يتشظى بتشظي عالمه الروائي ، الذي مثَّل الشكل الفني الذي قامت عليه الرواية ذات الطبيعة المعجمية في بنائها .
وإن كان من الممكن أن نعيد ذلك الملمح الذي يميز روايات الأجيال عند نجيب محفوظ إلى ذلك الدور الذي يميز السرديات بشكل عام على مستوى الأنساق المرئية ، من حيث أن التمثيل الطوبوغرافي البصري محور ضروري لتسكين القارئ وتنظيم خياله وترتيب معطيات الصورة , إنه المسرح الذي يعرض عليه (الروائي) شخوصه , ولابد ان يبنيه بأحكام، فإن ذلك لن يكون كافيًا لتحديد ذلك التوهج الذي يميز المكان – وبقية الأنساق المرئية بشكل عام- في تلك الروايات والذي يهبها خصوصيتها داخل عالم نجيب محفوظ الذي يمثل مجمل عمله تأريخًا وتحليلاً لعالم القاهرة منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى الثمانينيات من القرن العشرين- في مستوى من مستويات التحليل - ، فروايات الأجيال عنده تحمل كافة خصائص ذلك الملمح المميز لنجيب محفوظ وبشكل شديد التكثيف والوضوح بحكم مرور عدة أجيال على ذات المكان الثابت والأبدي الطابع في مستوى ما من التحليل (قاهرة نجيب محفوظ) ، كما يعكس المكان والإكسسوار وملابس الشخصيات والإضاءة ..إلخ الأثر الزمني القوي على المرئيات داخل الرواية ويؤكد على مرور الزمن واختلاف الأجيال وما يستبطنه ذلك من تحليل اجتماعي وسياسي واقتصادي (في الثلاثية وحديث الصباح والمساء) إلى جانب البعد الفلسفي (في الحرافيش وأولاد حارتنا ) الذي يتساءل فيه عن الزمن والعالم الميتافيزيقي ومكان الإنسان داخل الكون من خلال تلك المحاولات التي تبذلها الأجيال المتعاقبة لضبط وجودها في العالم وتحديد هويتها وهو ما يظل عالقًا في فضاء المكان الذي تحاول كافة الشخصيات بسط سيطرتها عليه عبر تلك المحاولات ، فهي تفشل دائمًا في تحقيق العدالة كما تنجح أحيانًا في تحقيق تلك اليوتوبيات لفترات قصيرة.
ومن هنا يمكننا أن ننطلق إلى الأنساق المرئية داخل روايات الأجيال عند نجيب محفوظ ؛ والتي تم حصرها في أربعة أشكال:
أ‌- الفضاء الجغرافي.
وهو مقابل لمفهوم المكان , ويتولد عن طريقة الحكي ذاته , إنه الفضاء الذي يتحرك فيه الأبطال . وقد اعتمدت الباحثة على التوصيف الذي صاغة كل من ”أ. مول، وإ. رومير من خلال تشبيههما للحيز الذي يحيط بالإنسان بالبصلة ؛ فالفرد يحتوي قلب البصلة وتمثل الأماكن المحيطة به طبقات البصلة وتتسع هذه الطبقات كلما اتسعت مجالات أفعاله ونشاطه. فكل فرد تحيط به عدد من القواقع , أقربها إليه جلده والذي يمثل الحد الفاصل بينه وبين العالم.
ومن هنا أقمنا تقسيمًا أساسيًا يعتمد على المكان الداخلي ، والذي يمثل جانبًا من النسق المرئي المحدد لعالم الشخصيات داخل روايات الأجيال عند محفوظ على المستوى الخاص (المنزل والغرفة و.. إلخ ) ، وذلك في مقابل المكان العام الذي يقدم الإمكانية المكانية القابلة للتجسيد والتي تؤطر عالم تلك الشخصيات عبر الأجيال (الحارة .. الحي .. الحانة .. إلخ ) آخذين في الاعتبار أن ”أحدهم محدد يتركز فيه مكان وقوع الحدث والآخر أكثر اتساعًا ويعبر عن الفراغ المتسع الذي تتكشف فيه أحداث الرواية وإن كان ذلك بشكل مخالف بعض الشيء ؛ حيث نزعنا صوب البحث عن المكان المركزي داخل نصوص الرواية وأثر وجودها في كافة الأماكن (العامة والخاصة) كمواقع للأحداث الصغرى من جهة ، وفي طرح المساحات الأدائية المضمرة من جهة أخرى . وفي النهاية أضفنا إلى ذلك المكان المتخيل (الأسطوري) الذي يتجسد في عدد من روايات الأجيال عند نجيب محفوظ ، وهو مكان خارج حدود الزمن ، وغير مرتبط به ، بل إنه يكاد يكون منفصلاً عنه بشكل تام (التكية .. منزل الجبلاوي ... إلخ ) ومن مجمل تلك التحديدات نستكشف الطبيعة الأدائية -على مستوى المكان- المميزة لرواية الأجيال عند نجيب محفوظ ، حيث يحمل كل مكان من تلك الأماكن طبيعة خاصة ومميزة تسهم بشكل فاعل في تدعيم الحيز المكاني والزماني من جهة ، كما تدعم النسق المرئي المميز لرواية الأجيال عند نجيب محفوظ ويسهم في دعم الطاقات الأدائية الكامنة داخله من جهة أخرى.
ثم نتناول بعد ذلك الحركة في الفضاء والذي سوف نتناول فيه حركة الشخصية داخل الفضاء (الجغرافي / الدلالي ) داخل الرواية وذلك في إطار رواية الأجيال ، محاولين تحديد الملامح الأدائية المميزة لتلك التقنية السردية ، التي هي جزء من النسق المرئي .
ب - الفضاء الدلالي .
ويشير إلى الصورة التي تخلقها لغة الحكي وما ينشأ عنها من بعد يرتبط بالدلالة المجازية بشكل عام . حيث تم تناول العناصر المرئية في المشهد الروائي داخل روايات الأجيال عند نجيب محفوظ ؛ مثل الإكسسوار والأزياء - ويعد هذا الأخير أحد أهم العناصر المشكلة لروايات الأجيال عند نجيب محفوظ- ، وأخيرًا الإيماءة التي سيتم من خلالها دراسة الطبقات الدلالية المختلفة لتلك المرئيات ودورها في تخليق الملامح الأدائية داخل رواية الأجيال عند محفوظ.
ج - الفضاء كمنظور.
ويشير إلى الطريقة التي يستطيع الراوي / الكاتب بواسطتها أن يهيمن على عالمه الحكائي من خلال تقنية حركية المنظور ، والتبئير حسب تعريف جيرار جينت وتعديلات مايك بال عليه ، وذلك في محاولة للإمساك بالملامح الأدائية المختزنة داخل الأعمال الروائية التي تجعلنا ندخل في مقاربات مع حجم العدسات السينمائية وحركة الكاميرا. كما قامت الباحثة دراسة أثر الضوء واللون في تشكيل المشهد السردي بصريًا وتكوين اللقطات .
ثالثا : النسق الزمني
فكما يبدو مما سبق فإن هناك سمات مشتركة بين السرد والأداء الفني تنطلق من حتمية تحرك الحكاية في الزمن (وفق بنية تنظمية تشكل عمليات تحرك الحكاية في الزمن وتحدد كيفية تلقيها حتى لو كنا نتحدث عن أعمال بلا بنى حكائية واضحة أو محددة) وهو ما يمكن أن يجعلنا نعود إلي الإمكانات الأدائية الكامنة في الكلمات (كما أشرنا في المبحث الأول من الفصل الثاني) فعملية الإدراك الجمالي تحدث داخل الزمان وتفترض فضاءً أدائيًا يمكن أن تتحقق فيه .. وهو ما يعني أن اللغة وهي تتحرك داخل الزمن ومحملة بالزمن فإنها تسعى نحو الاقتراب من العالم الحي وتحيل إليه... وهو ما يقودنا إلى القول بأن اللغة السردية تسعى دائمًا نحو التحقق في المكان نظرًا لصعوبة تخيل وجود زمن منفصل عن المكان وهو ما يشير إليه جينيت بقوله: السرد الصرف صيغة خيالية ، أو – على الأقل – نظرية غير ممكنة التحقق إلا في أضيق الحدود وتحت ظروف خاصة غير قابلة للتحقق في السرديات الكبرى كالرواية والملحمة.
وهنا نؤكد على أن للرواية قدرات أدائية بحكم تكوينها ولعل ذلك ما يبرز بشكل واضح وبارز في طبيعة البناء الخاص بالبنية الروائية التي أصبحت من السمات الأساسية لبناء الرواية كجنس أدبي بشكل أصبح معه من غير الممكن للرواية أن تتحرر من مجموعة من العادات (تقطيع النص إلى فصول مثلاً) والتقنيات (كالسرد المتزامن والمونولوج الداخلي ) والطرائق (مثل التناوب بين السرد والوصف).
إن تلك التقنيات والعادات والطرائق التي تعد الأزمنة الداخلية للنص (وإلى جانب أدوارها الفنية والبنائية) تقوم بتحديد مجالات زمنية خاصة بكل جزء من أجزاء العمل الروائي وتحيل القارئ إلى بنى زمنية خاصة بالعمل الفني من ناحية كما تحدد جماليات تلقي العمل الروائي من ناحية أخرى . وكذلك فإن تلك التقنيات والعادات تشير إلى الجهد الذي بذلته أجيال متعاقبة من الروائيين للتحكم في البنية الحكائية وتطويع اللغة لكي تسهم في تحقيق الأهداف المرجوة منها وهي تقديم الحكاية بشكل متسلسل داخل الزمن من ناحية ثالثة، وأخيرًا فإن تلك التقنيات والطرائق والعادات التي نمت وتطورت بالأشكال السردية والدرامية (الكتابية والشفاهية) - على مر العصور وفي مختلف الثقافات - لتسهم في إبراز الجوانب الأدائية للغة والحكاية - كل في مستواه – من خلال تقسيم النص لمشاهد وفصول وإبراز أصوات الشخصيات والتناوب بين وصف الصورة المتخيلة و تقديم الحكاية.
بشكل عام فإن تلك التقنيات والطرائق والعادات هي جماع محاولات الشكل السردي للتحقق الأدائي وبالتالي فإن الزمن كمُشكل أساسي في عمليات تلقي وتشكيل العمل الروائي يسهم بدور أساسي في التأكيد على تلك السمات الأدائية التي نحاول اكتشافها هنا بداية من مستوى أزمنة أفعال اللغة ونهاية بالإشارات الواضحة من قبل الروائي لتغير الزمن صوب المستقبل أو الماضي .
ولهذا بداية بالأزمنة الخارجية مرورًا بالأزمنة الداخلية للعمل وصولاً إلى الدور الدلالي للزمن في روايات الأجيال .. يقودنا نحو استكشاف كيفية تحول تلك التقنيات السردية الخاصة بالزمن إلى تقنيات داعمة للإمكانات الأدائية الكامنة في روايات الأجيال عند نجيب محفوظ .
وقد قامت الباحثة بدراسة النسق الزمني على محورين:
أ‌- مستويات الزمن.
إن مستويات الزمن السردي يمكن أن مثلت مدخلاً هامًا لدراسة الطرق والأساليب التي اعتمدها محفوظ في بناء روايات الأجيال عنده، ذلك أن مستويات الزمن تدفع في العادة نحو إدراك العالم الروائي كبناء أكثر عمقًا وأكثر تعقيدًا من بنية الحكاية ذات البنية البسيطة .. حيث تتحول عمليات صياغة الزمن في الرواية إلى مشكل أساسي في تكوين العالم وطرق صياغته وبنائه وبالتالي في عمليات تلقيه، وقد قامت الباحثة بتقسيم مستويات الزمن السردي إلى ثلاثة مستويات أساسية هي:
1- مستوى النظام.
2- مستوى المدة.
3- مستوى التواتر.
ب‌- النص بين الرواية والعرض.
تناولت الباحثة هنا الملامح الأدائية التي تجمع بين السرد الروائي والسرد السينمائي ، وذلك من خلال دراسة المفارقات الزمنية/ السردية (التي تحمل ملامح أدائية يمكن تفعيلها) في النص الروائي من ناحية ، ومن ناحية أخرى تشكيل الحبكة بكل ما تحمل من عمليات مرتبطة بإعادة صياغة الحكاية عبر السرد من خلال استخدام تقنيات زمنية تقوم على تنظيم العلاقات الحوارية بين الخطابات المختلفة.