Search In this Thesis
   Search In this Thesis  
العنوان
توازن القوي والنظام العالمي الجديد :
المؤلف
علام ، ناصر عبد الراضي عبد الحكيم .
الموضوع
توازن القوي
تاريخ النشر
2007 .
عدد الصفحات
5-413ص.:
الفهرس
يوجد فقط 14 صفحة متاحة للعرض العام

from 383

from 383

المستخلص

كان هدف هذه الدراسة هو استطلاع مستقبل النظام العالمي في الواقع ومستقبل نظرية العلاقات الدولية في ظله ، وذلك من خلال سعيها للإجابة على سؤال رئيسي طرحته في البداية ودار حول إمكانية ترسخ واستمرار النظام أحادي القطب من عدمه ثم مستقبل نظرية العلاقات الدولية في ظل الاحتمال المرجح ، وقد قسمت الدراسة سؤالها الرئيسي لأربعة أسئلة فرعية دارت الثلاثة الأولى حول مستقبل النظام من حيث إمكانية محافظة القطب الأكبر على تفوقه ومن ثم انفراده بقيادة النظام العالمي ، وإمكانية صعود قوى أخرى منافسة ، ومدى قبول القوى الأخرى بقيادة هذا القطب وخضوعها لقيادته ، أما السؤال الفرعي الرابع فقد تعلق بمستقبل نظرية العلاقات الدولية.
وفي سعيها للإجابة انطلقت الدراسة من فرضيتين متضادتين بمعنى أن إثبات صحة إحداها يعني نفي الأخرى ، الأولى تقول بأن توازن المصالح بين القطب الأكبر والقوى التالية له هو الذي سيحدد مستقبل النظام العالمي رغم اختلال توازن القوى. والثانية تدعي بأن توازن المصالح لن يمكن تحققه في الواقع وأن توازن القوى سيعمل عمله كقانون للعلاقات الدولية وهو الذي سيحدد مستقبل هذا النظام.
وقد كان تصور الدراسة منذ البداية أن نتيجة اختبار هاتين الفرضيتين وإجابة الأسئلة المطروحة (السؤال الرئيسي والأسئلة الفرعية) لا تخرج عن احتمالين:
الاحتمال الأول: هو تحقق صحة الفرضية الأولى وهذا معناه محافظة القطب الأكبر على تفوقه وعدم قدرة القوى الصاعدة على منافسته لكن القطب الأكبر سيحقق مع هذه القوى نمط علاقات يقوم على توازن المصالح وستقبل هذه القوى بقيادته ومن ثم يترسخ نظام القطبية الأحادية/الانفرادية ويستمر كنظام عالمي في المستقبل.
الاحتمال الثاني: هو نفي صحة الفرضية الأولى وتحقق صحة الثانية فلا يستطيع القطب الأكبر الحفاظ على تفوقه وصعود قوى أخرى تنافسه وعدم إمكانية إحلال توازن المصالح محل توازن القوى وإن تحقق سيكون في حقيقته انعكاساً لتوازن القوى وامتداداً له لعدم قبول القوى الأخرى بقيادة هذا القطب وعدم خضوعها له أي أن توازن القوى وليس توازن المصالح هو الذي سيحدد مستقبل النظام ، وفي هذه الحالة لن يترسخ النظام الأحادي وسيتطور النظام العالمي لوضع ثنائي أو متعدد الأقطاب.
وقد خلصت الدراسة إلى عدم صحة الفرضية الأولى وفي المقابل تحقق صحة الفرضية الثانية وما يرتبط بها من إجابات للأسئلة ، أي أن الاحتمال الثاني هو الذي سوف يتحقق في الواقع وهو ما اتضح بشكل خاص في الفصل الرابع ويمكن استعراضه بشكل مركز فيما يلي:
إذا كان انهيار الاتحاد السوفيتي قد أُعتبر نقطة فاصلة في تاريخ العلاقات الدولية حيث انهار نظام القطبية الثنائية وأعلن عن نظام عالمي جديد ، فإن الدراسة انتهت إلى اعتبار المرحلة الممتدة منذ ذلك الحدث هي مجرد مرحلة انتقالية بين نظام ذهب ونظام قادم ، حيث لم يتحقق للنظام الجديد صفة الاتزان والاستقرار بعد في عناصره الثلاثة أو بين هذه العناصر بعضها البعض ، وهو ما أكده عدم انقطاع محاولات التثبيت والترسيخ من جانب ومحاولات الرفض والمقاومة من الجانب الآخر ، فهيكل النظام لم يستقر بصورة واضحة حتى الآن ، وما زال إطاره الفلسفي يثير جدلاً ولغطاً عبر العالم ، وفي النهاية ونتيجة لذلك فإن تفاعلات النظام ما زالت غير نمطية بالمعنى الدقيق ، بل إن سلوك القطب الأكبر نفسه ليس نمطياً حيث يختلف من قضية لأخرى ومن منطقة إلى منطقة.
من خلال الملاحظة المباشرة رصدت الدراسة بعض الأنماط السلوكية واللفظية المتكررة - إلى حد ما - من قبل القطب الأكبر ، وباتباع منهج تركيبي استنتج من ذلك أن القطب الأكبر يسعى لتثبيت نظاماً عالمياً انفرادياً يدين له بالهيمنة والسيطرة المطلقة وينفرد فيه بعجلة القيادة والتوجيه ، لكنه لم يحقق هدفه بعد ، حيث لم تسلم الأطراف الأخرى لهذا النظام حتى الآن ، وما زالت محاولة المقاومة والرفض له مما يضطر القطب الأكبر للخروج عن الأنماط السلوكية المشار إليها أحياناً وفشله في تحقيق أهدافه في أحياناً أخرى.
ومن خلال بحث العوامل المؤثرة على مستقبل النظام العالمي والتوليفات الممكنة بينها توصلت الدراسة لأربعة سيناريوهات خرجت منها الدراسة باحتمالين اثنين لمستقبل النظام العالمي ، الأول هو النظام الانفرادي ، والثاني هو نظام متعدد الأقطاب ، ورغم أن الدراسة حاولت رسم ملامح كلا النظامين وحاولت إبراز ما يمكن أن يحمله كلاً منهما من سمات مستحدثة في هيكله وقواعد عمله وأنماط تفاعلاته إلى أنها رجحت الاحتمال الثاني على الاحتمال الأول وذلك لأنها رأت أن النظام الانفرادي كما يريده القطب الأكبر يتطلب شروطاً يصعب تحققها ومن ثم فهو أقرب للفشل منه للنجاح ليس لأنه حالة غير مسبوقة تاريخياً فحسب ، وإنما بفعل عوامل موضوعية ومنطقية بعضها يعود إلى طبيعة وسمات النظام ذاته ، وبعضها يعود لاعتبارات الواقع العملي ، أما العوامل المتعلقة بالمشروع ذاته فإن الكثير من السياسات التي يتبعها القطب الأكبر لن تؤتي أهدافها ، فمحاولة منع صعود قوى منافسة مثلاً هو أمر مستحيل لم تستطع تحقيقه أي قوة مهما بلغت عبر التاريخ ، لأنه من المستحيل التحكم في معدلات النمو الاقتصادي لدى الآخرين خاصة وأن القوة الاقتصادية هي العنصر الأساسي للقوة في المرحلة الحالية والمقبلة ، كذلك فإن إعادة هندسة المجتمعات وفقاً لرؤية وأهداف القطب الأكبر هي أمر مستحيل ؛ لأنها تتطلب النفاذ إلى البنية التحتية لهذه المجتمعات بأدق تفاصيلها ، فهو لا يستطيع أن يغير أنماط وأساليب التربية في الأسرة أو أن يغير الثقافة الشعبية التي تتناقلها الأجيال بعيداً عن مؤسسات التعليم الرسمية ، كما أن الإطار الفلسفي للنظام كما يريده القطب الأكبر ويسعى إليه من خلال النموذج الثقافي لمشروعه يواجه رفضاً واستهجاناً عبر العالم. وبشكل إجمالي فإن الهيمنة كطابع أساسي للنظام تدفع للرفض والمقاومة مثلما تدفع محاولات التوحيد النمطي ”القسري” للعالم إلى إيقاظ الخصوصيات والتعلق بالهويات.
بالنسبة لاعتبارات الواقع فإنه إذا كانت القوة هي التي دفعت القطب الأكبر إلى تبني مشروعاً انفرادياً وهي نفسها أداته الرئيسية في تنفيذ هذا المشروع فإن القوة أيضاً هي التي ستقرر مستقبل هذا المشروع. وقد انتهت الدراسة إلى توقع تراجع حتمي في القوة النسبية للقطب الأكبر مقابل صعود نسبي لقوى أخرى بما يحول دون إقامة نظام انفرادي متزن ومستقر.
ومن خلال تتبع مسيرة تطور النظام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية ومع الأخذ في الاعتبار التجارب التاريخية السابقة اتضح للدراسة أن القوة الاقتصادية هي العنصر الأهم من بين عناصر القوة - خاصة في عالم اليوم والغد - فهي التي أدت إلى تراجع بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية ، وفي المقابل أدت إلى صعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ، وهي نفسها التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي واستمرار الولايات المتحدة ، كما أدت إلى بروز قوى أخرى مثل اليابان وألمانيا والصين . وقد بدت للدراسة ملاحظة هامة وهي أن التركيز على البعد الاقتصادي وتضييق الدور الخارجي قدر الإمكان هو الذي يمكن الدول من بناء قوتها الاقتصادية لتبرز في مرحلة لاحقة كقوة كبرى ، فالتركيز الاقتصادي الأمريكي مع سياسة العزلة هي التي قدمت الولايات المتحدة كقطب أعظم بعد الحرب العالمية الثانية ، والعكس بالنسبة لبريطانيا وفرنسا ، وهو نفس ما حدث مع اليابان وألمانيا في عهد النظام السابق وعكسه ما حدث للاتحاد السوفيتي ، وهو ما يتطابق مع ما قال به بول كيندي حول مخاطر التمدد وعدم التناسب بين الأعباء الإمبراطورية والإمكانيات الفعلية وهو الخطر الذي يواجهه القطب الأكبر في المرحلة القادمة.
وفقاً لما سبق ركزت الدراسة على البعد الاقتصادي في تقييمها وتوقعها لمستقبل القوة في العالم ، وقد انتهت كما أشير إلى توقع تراجع حتمي في القوى النسبية للقطب الأكبر ، وهو ما قال به كثيرون مع صعود قوى أخرى إلى جانبه ، لكن التراجع المتوقع لا يقصد به انهياراً كما قال البعض وإنما هو تراجع نسبي مقارنة بالقوى الأخرى التي ستصعد وبأعباء القيادة المنفردة للنظام العالمي ، بمعنى أن التفوق الأمريكي لن يظل على حاله ، بل إنه آخذ في التراجع بالفعل مع صعود القوى الأخرى - وفقاً لمؤشرات عديدة وردت بما يعني ضيق الفجوة أو زوالها وإن لم يتحقق تفوق للقوى الأخرى على هذا القطب ، وهذا التراجع سيجعل من الصعب على الولايات المتحدة تحمل أعباء نظام إمبراطوري انفرادي بما يفرضه من فاتورة ثقيلة ، كما سيتعذر عليها إخضاع تلك القوى الصاعدة والسيطرة عليها وبسط هيمنتها دون اعتبار لرؤى هذه القوى ومصالحها مما سيضطرها في النهاية للعدول عن هذا النظام.
وقد خلصت الدراسة إلى بقاء الولايات المتحدة كأحد أضلاع المربع الذهبي للقوة في المرحلة المقبلة ، أما الأضلاع الثلاثة الأخرى فهي اليابان وأوروبا والصين ، لكن هيكل القوى للنظام القادم لن يستقر على الصورة المشار إليها قبل عقد أو يزيد وستسمر خلال هذه الفترة المرحلة الانتقالية الحالية بتفاعلاتها المتضمنة لمحاولات القطب الأكبر تثبيت نظام انفرادي ومقاومة ورفض القوى الأخرى ومحاولاتها تحقيق نظام تعددي سوف تبرز ملامحه تدريجياً ، وستشهد السنوات الأخيرة من تلك الفترة المخاض لولادة نظام عالمي جديد حقيقي.
وفقاً للتوقع السابق بشأن مستقبل القوة بالإضافة إلى عوامل أخرى مرتبطة بعلاقات القوى الصاعدة وموقفها من القطب الأكبر ومشروعه الانفرادي رجحت الدراسة أن النظام العالمي القادم هو نظام متعدد الأقطاب أقطابه الكبرى أربعة هي الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي والصين ، وحسبما ستقرر هذه القوى تسيير علاقاتها ستتحدد طبيعة هذا النظام وطريقة عمله ، ومن ثم أنماط التفاعل الدولي في ظله ، وقد توقعت الدراسة صورتين مختلفتين للنظام متعدد الأقطاب تبعاً لاختلاف علاقات القوى القطبية الأربعة.
الصورة الأولى هي ”التعددية التنافسية” أو ”تعدد الأقطاب المتنافسة” وهي الصورة التي ستتحقق إذا ما غلب طابع الصراع والتنافس على التفاهم والتعاون في علاقات هذه القوى. أما الصورة الثانية فهي ”التعددية التوافقية” أو ”تعدد الأقطاب المتوافقة” وسوف تتحقق إذا ما ساد التفاهم والتعاون وتغلب على الصراع والتنافس بين هذه القوى وهو ما يتطلب أن توسع هذه القوى مجالات الاتفاق وترسخ تفاهماً حول القضايا الكبرى في إطار من ”توازن المصالح” وسوف تختلف قواعد عمل النظام وأنماط تفاعلاته ، كذلك سوف يختلف موقف الدول المتوسطة والصغيرة في كل حالة على النحو الذي أوضحه المبحث الثاني من الفصل الخامس.
يبقى الجزء الثاني من السؤال الرئيسي أو السؤال الرابع من الأسئلة الفرعية والمتعلق بمستقبل نظرية العلاقات الدولية ، في ظل الاحتمال المرجح من وجهة نظر الدراسة ، وبهذا الخصوص انتهت الدراسة إلى استمرار سيطرة وغلبة النظرية الواقعية على حساب النظريات الليبرالية والبنائية. فعوامل القوة هي التي أدت لانهيار النظام السابق ، وهي التي صاغت وتصيغ تفاعلات المرحلة الانتقالية وهي التي ستقرر مستقبل النظام العالمي ، ومن ثم يبقى الإطار الواقعي هو الأقدر والأكثر ملائمة لدراسة العلاقات الدولية وتفسير ظواهرها ، لكن هذا لا يمنع الدراسة من القول بأن النظرية الواقعية رغم ذلك بحاجة لمراجعة شاملة لتتلائم مع الظروف المستجدة في المرحلة الجديدة والصورة المتوقعة للنظام العالمي القادم ، وقد توقعت الدراسة أن تفضي عملية المراجعة إلى تطوير الفرضيات المساعدة للنظرية والمختلفة بين الواقعية الكلاسيكية والواقعية الجديدة وذلك بتأكيد بعض من هذه وبعض من تلك ونفي البعض الآخر مع إمكانية استحداث فرضيات جديدة مع بقاء النواة الأساسية لفرضيات النظرية دون تغيير ، لكونها تمثل مضمون الرؤية الواقعية التي قامت عليها النظرية في طوريها الكلاسيكي والجديد وبالتالي ستستمر على حالها طالما ظلت النظرية الواقعية غالبة ومسيطرة.
ولتتلاءم النظرية الواقعية مع مستجدات المرحلة فإن انتقال التركيز من القوة العسكرية إلى القوة الاقتصادية وتقدم الأمن الاقتصادي على الأمن العسكري سيفرض تغير مفهوم القوة وطريقة تقييمها كما ستتغير أهداف الدول ، وسيتغير تبعاً لذلك مضمون نظرية التوازن ، سيحل التوازن الاقتصادي محل التوازن العسكري وسيصبح توازناً اقتصادياً متعدد الجوانب ، فبدلاً من ”توازن القوى” و ”توازن التهديد” و”توازن المصالح” والذي يمثل كلاً منهم حالة منفصلة سيصبح التوازن حالة واحدة تجمع كل هؤلاء ”توازن اقتصادي متعدد الجوانب يتضمن توازن القوى حيث إن القوة الاقتصادية هدف دائم لجميع الحالات وعبر الزمن يهدف لمقاومة التهديد الذي سيظل وارداً ومتناسباً مع مستوى القوة وسيتطلب ذلك العمل على تحقيق مكاسب الفرصة كلما سنحت بما يصب في ميزان القوى ولصالح الدولة.
بالنسبة للصورة المتوقعة لمستقبل النظام العالمي فإن ”التعددية التوافقية” لو تحققت ستفضي إلى انقسام النظام العالمي إلى مستويين وهي صورة مستحدثة وغير مسبوقة وستفرض بالتالي تحولاً في مفهوم النظام وعناصره ومكوناته ، وانقسام النظام إلى مستويين سيتطلب انقسام النظرية إلى مستويين مناظرين ، فمع اختلاف الإطار الفلسفي للمستويين وكذلك اختلاف أنماط التفاعلات على كل مستوى يصبح من غير الصحيح دراسة العلاقات الدولية على المستويين وفقاً لنفس الأسس وبنفس الطرق والأدوات ، والعلاقات على المستويين وإن ظلت قائمة وفقاً للرؤية الواقعية إلا أنه سيكون هناك قدر واضح من الاختلاف بين التفاعلات على المستويين على نحو مشابه للاختلاف بين أطراف النظام الأوروبي في الماضي والمناطق الواقعة خارجه.
ومن حيث تأثير النظام العالمي على السياسات الخارجية للدول فإن المرحلة الجديدة بمستجداتها والنظام العالمي المتوقع خلالها سيتركان أثراً واضحاً على هذا الجانب من نظرية العلاقات الدولية ، فالبعد الاقتصادي وأهميته المتزايدة ، ومع زيادة الترابط والتأثير والتأثر بين أطراف النظام الدولي فيما يطلق عليه ”عوامل التجميع” سيعلي من أثر النظام العالمي على السياسات الخارجية للدول وذلك على حساب العوامل الداخلية ؛ نظراً لتعذر الانعزال وعدم قدرة الدولة على حل مشكلاتها وتحقيق أمنها ”الاقتصادي” بمعزل عن بقية الدول ، بل إن كل دولة ستصبح جزء من عملية التفاعل الدولي بشكل حتمي وإن أبت خاصة في ظل ”التعددية التوافقية” حيث ستزداد درجة تحكم النظام في وحداته المتوسطة والأصغر بما يضيق هامش المناورة أمامها ويحد من حرية الحركة المتاحة لها.
إن السياسة الخارجية للدولة سوف تتأثر بالنظام العالمي في المرحلة المقبلة وهو بالطبع أمر غير مستحدث ، بل هو واقع من قبل ، وإذا كان هذا التأثر سوف يتعمق ويزداد عن ذي قبل فهذا لا يعني انتفاء أثر العوامل الداخلية ، فأي كيان يعمل في بيئة لابد أن يتأثر بها وتتراوح درجة هذا التأثر زيادة ونقصاً تبعاً لارتباطه بهذه البيئة ، لكن السلوك لا يمكن أن يكون مجرد رد فعل للبيئة أو يكون رد فعل متوافق ومتوائم معها دائماً ؛ لأن أي كيان له دوافع ذاتية تحركه بشكل مستقل إلى جانب تأثره بالبيئة وبالتالي يكون السلوك مزيج من الفعل ورد الفعل ، ومن غير المتوقع أن تأتي البيئة دائماً بما يتواءم مع الدوافع الذاتية ليتوافق معها رد الفعل ، خاصة إذا كانت بيئة أساسها التميز والانقسام واختلاف المصالح بين الأطراف مثل بيئة العلاقات الدولية.
وما تنبه إليه الدراسة هو أن تأثر سلوك الدول بالنظام العالمي لا يتأتى من هيكل النظام وحده بمعنى توزيع القوة بين أطرافه ، وإنما يجب أن تكون النظرة شاملة لعناصر النظام الثلاثة ، الهيكل والإطار الفلسفي وأنماط التفاعلات ، ومن ثم كانت دعوة الدراسة لتطوير ”نظرية نظامية واقعية” وعدم الوقوف عند ”الواقعية البنائية” بحيث يمكن الأخذ في الاعتبار أثر العناصر الثلاثة على تفاعلات الدول وعلاقاتها .
وهذه النظرية ستجمع بين النظرية الواقعية ونظرية النظام على نحو ملائم للمرحلة الجديدة ، فجانب كبير من سلوكيات الدول سنجد تفسيره في النظام العالمي ، لكن في عناصره الثلاثة وليس في هيكله فقط ، وهذه العناصر ستتشكل أصلاً وتعمل وفقاً لرؤية النظرية الواقعية أي أن النظرية ستكون نظامية في هيكلها وواقعية في رؤيتها وروحها وافتراضاتها الأساسية ، والبعد النظامي سيمكن من إدماج ”عوامل التجميع” رغم أنها مضادة للرؤية الواقعية ، وذلك من خلال الإطار الفلسفي أي أن النظرية لن تهمل العوامل الليبرالية والبنائية التي سيتحقق حولها الإجماع الدولي لتؤثر على تفاعلات النظام، كما أن البعد النظامي لن يمنع من الأخذ في الاعتبار العوامل الداخلية فهي في النهاية مرتبطة بالوحدات الفرعية الفاعلة فيه ، والرؤية الواقعية ستدعم ذلك بتأكيدها على انقسام البيئة الدولية إلى وحدات متنافسة وعلى اختلاف المصالح بين هذه الوحدات.
ومع استمرار الغلبة والسيطرة للنظرية الواقعية ، ولأن توازن القوى سيظل هو قانون العلاقات الدولية وأنه سيتطور إلى توازن اقتصادي متعدد الجوانب (قوى – تهديد – مصالح) ومع تحول التركيز من القوة العسكرية إلى القوة الاقتصادية فإن فرضيات جديدة يمكن تطويرها نتيجة لهذا التغير ومن خلالها يكون كتاب العلاقات الدولية مطالبين بإعادة النظر في موضوعات مثل سياسات التوازن ، ففي ظل الوضع الجديد فإن سياسات مثل ”المناطق العازلة” ، ”التعويضات الإقليمية” لن تكون هي محط الاهتمام وستسمر سياسات مثل ”فرق تسد” ، ويتعاظم دور سياسات مثل ”المعونات الاقتصادية” وفي مقابلها ”العقوبات الاقتصادية” ، كذلك سياسات ”نقل التكنولوجيا” ، كما سيظل دور ”التوازن من الداخل” بل سيتعاظم ، وكذلك ”التوازن من الخارج” (التحالفات) ولكن ستختلف قواعده وظروفه وأهدافه ، ومن ثم سيكون مطلوباً إعادة صياغة نظرية التحالف على أسس اقتصادية خاصة فيما يتعلق بالتحالف مع مصدر الخطر أو التحالف ضده كذلك التحالفات الجامدة والمرنة والمؤقتة.
إن تطوراً منتظراً - بلا شك - في صورة النظام العالمي وفي نظرية العلاقات الدولية التي ستصاحبه ، ولأن المستقبل لا يأتي منقطعاً عن الماضي فإن الصورة الجديدة لا يمكن أن تنقطع عن جذورها ومسيرة التطور التاريخي للعلاقات الدولية ؛ فهي نتاج هذا التطور وثمرته ، ومن ثم فلن تكون حالة مستحدثة أو مبتكرة بالكامل ، بل إنها ستحمل قدراً من الشبه مع ما سبقها ، كما ستحمل قدراً من الاختلاف ، وتلك طبيعة التطور.